فصل: (فرع: لا يطلب إخراج البهائم)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[مسألة:إدراك الركوع الثاني]

قال في "الإبانة" [ق 103] وإن أدرك المأموم الإمام في الركوع الثاني... فقد قال الشافعي: (لم يكن مدركًا لتلك الركعة؛ لأنه لم يدرك معظمها).
قال الشافعي: (فعلى هذا يفعل المأموم ما بقي من الركعة متابعة لإمامه، ويصلي معه الركعة الثانية، فإذا سلم الإمام... قام المأموم، فإن كان الكسوف باقيًا صلى الركعة الثانية بهيئاتها، وإن تجلى الكسوف... صلاها، وتجوز فيها).
فإن لم يقرأ في كل قيام إلا بأم القرآن... أجزأه؛ لأن الفريضة تجزئ بذلك، فالنافلة بذلك أولى.
وقال صاحب " التقريب ": إذا أدركه في الركوع الثاني... كان مدركًا للركعة.
وحكى الصيمري: أنه لو اقتصر على ركوعٍ واحدٍ... أجزأه.

.[مسألة:خطبة الكسوف]

فإذا فرغ من الصلاة، فالسنة أن يخطب خطبتين يفصل بينهما بجلسةٍ، يحمد الله فيهما، ويصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويوصي بتقوى الله، ويقرأ آية؛ لما ذكرناه في الجمعة.
قال الشافعي: (ويحثهم على الصدقة، ويأمرهم بالتوبة، والاستغفار، والنزوع عن المعاصي)؛ لأنه قد روي ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقال مالك، وأبو حنيفة: (لا يخطب).
دليلنا: ما روي عن عائشة: أنها قالت: «لما كسفت الشمس... قام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فصلى -ووصفت صلاته نحوًا مما ذكرناه- فلما تجلت الشمس انصرف، وخطب الناس، فذكر الله، وأثنى عليه، وقال: يا أيها الناس، إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك... فادعوا الله، وكبروا، وتصدقوا، ثم قال: يا أمة محمد، والله، لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا، ولبكيتم كثيرًا».
ولأنها صلاة نافلة يسن لها الجماعة، تنفرد بوقتٍ، فكان من سننها الخطبة، كالعيدين.
فقولنا: (نافلة) احتراز من الفريضة.
وقولنا: (يُسن لها الجماعة) احتراز من النوافل التي لم تسن لها الجماعة.
وقولنا: (تنفرد بوقت) احتراز من التراويح؛ لأن وقتها ووقت العشاء واحد.
وقال الشافعي: (يخطب حيث لا يجمع).
قال أصحابنا: أراد أنه يخطب في الكسوف في السفر، وفي غير عددٍ، إلا أنه إذا كان منفردًا... لم يخطب؛ لأن الخطبة لوعظ غيره وتذكيره.

.[مسألة:جلاء الكسوف قبل الصلاة]

فإن لم يصل للخسوف حتى تجلى الخسوف... لم يصل؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فصلوا حتى تنجلي».
وإن تجلى بعض الكسوف... جاز أن يبتدأ الصلاة، كما لو لم ينكشف غير ما بقي.
فإن جللها سحاب أو حائل، وهي كاسفة... صلى الكسوف؛ لأن الأصل بقاؤه، وكذلك إذا ظهر بعض الشمس أو بعض القمر منجليًا فإنه يصلي؛ لأن الأصل بقاء الكسوف في الباقي منه.
فإن غابت الشمس كاسفة... لم يصل الكسوف؛ لأن الصلاة إنما تراد لكي يرد الله تعالى عليها نورها، ولا نور لها في الليل.
وإن غاب القمر خاسفًا، فإن كان قبل طلوع الفجر... صلى الخسوف؛ لأنه ينتفع بضوئه في غير هذا اليوم في هذا الوقت.
وإن لم يصل لخسوف القمر حتى طلع الفجر الثاني، أو غاب خاسفًا في هذا الوقت... ففيه قولان:
أحدهما قال في القديم: (لا يصلِّي؛ لأن آية القمر الليل، وقد ذهب، فلا يصلِّي لأجله، كالشمس إذا ذهبت آيتها، وهي النهار).
والثاني: قال في الجديد: (يصلِّي؛ لأنه ينتفع بضوئه).
وإن كسف القمر بعد طلوع الشمس، أو بقي كاسفًا إلى تلك الحالة.. لم يصل الكسوف، قولاً واحدًا؛ لأنه لا ينتفع بضوئه في هذه الحالة.
فإن طلعت الشمس، وهو في صلاة كسوف القمر، أو تجلَّى الكسوف، وهو في الصلاة.. لم تبطل صلاته؛ لأنها صلاة أصل، فلا يخرج منها بخروج وقتها، كسائر الصلوات.
وفيه احتراز من الجمعة، فإنها بدلٌ عن الظهر، ويخرج منها بخروج وقتها إلى الظهر.

.[فرع: لا يصلي لآية غير الخسوفين جماعة]

قال الشافعي: (ولا آمر بالصلاة جماعة لآية سواها، وآمر بالصلاة منفردين).
وهذا كما قال: لا تستحب صلاة الجماعة لسائر الآيات، مثل: الزلازل، والظلمة بالنهار، والريح الشديدة، والأمطار الشديدة.
فإن صلَّى الناس منفردين؛ لئلا يكونوا على غفلة.. فلا بأس.
وقال أحمد، وإسحاق، وأبو ثور: (يسن لها الصلاة بالاجتماع، كالكسوف).
دليلنا: أن هذه الآيات قد كانت على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم ينقل: أنه صلَّى لها جماعة.
وروى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا رأى ريحًا عاصفًا، قال: اللهم اجعلها رياحًا، ولا تجعلها ريحًا».
قال ابن عباس: (لأن كل موضع ذكر الله الريح، فهو عذاب).

.[مسألة:اجتماع صلاة الكسوف وغيرها]

إذا اجتمعت صلاة الكسوف، وصلاة الجنازة، واستسقاء، وعيد... فإنه يبدأ بصلاة الجنازة؛ لأنها فرض، ولأنه يُخشى على الميت التغير، ولهذا ندب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى الإسراع بها.
فإن كان وقت صلاة العيد واسعًا... بدأ بصلاة الكسوف قبل صلاة العيد؛ لأنه يخشى فواتها، وصلاة العيد يتحقق أنها لا تفوت، ثم يُصلَّى العيد بعدها، ويخطب لهما معًا.
وإن ضاق وقت صلاة العيد... بدأ بصلاة العيد قبل صلاة الكسوف؛ لأنه يُتحقق فواتها، ويُشكُّ في فوات وقت صلاة الخسوف.
فإذا فرغ من صلاة العيد، وكان الخسوف باقيًا.. صلَّى له وخطب له، وللعيد خطبتين.
وأما الاستسقاء: فإنه يؤخره عن ذلك كلَّه إلى يوم آخر، لأنه لا يفوت بتأخيره عن اليوم.
وقد اعترض ابن داود على الشافعي، وقال: كيف يجتمع الكسوف مع صلاة العيد، والشمس لا تكسف في العادة إلا في يوم التاسع والعشرين، ويوم العيد أول يوم من الشهر، أو يوم العاشر؟!
قال أصحابنا: فالجواب: أنه لا يمتنع كسوفها في غير ذلك اليوم، وقد روي: أنها كسفت في اليوم الذي مات فيه إبراهيم بن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وموته كان يوم العاشر من ربيع الأول، على أن الفقهاء قد يذكرون مسائل، وإن لم يتفق وجودها في العادة، كقول الفرضيِّين: إذا مات رجلٌ، وخلَّف مائة جدَّةٍ.
وإن اجتمع الكسوف مع صلاة فريضة... نظرت:
فإن كانت غير الجمعة، فإن كان وقت الفريضة واسعًا.. صلَّى صلاة الكسوف، لأنه يخشى فواتها، ثم صلَّى الفريضة؛ لأنه يتحقق أنها لا تفوت.
وإن كان وقت الفريضة ضيقًا... بدأ بصلاة الفريضة؛ لأنها فريضة، ويخاف فواتها، ثم صلَّى صلاة الكسوف.
وإن كانت الفريضة الجمعة: فإن كان وقتها واسعًا.. صلَّى الخسوف أوَّلاً؛ لما ذكرناه في غير الجمعة.
قال الشافعي: (ويقرأ في كل قيام فاتحة الكتاب، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]. فإذا فرغ.. خطب خطبتين للجمعة والخسوف، ثم يصلِّي الجمعة).
وإن كان وقت الجمعة ضيقًا.. بدأ بها قبل الكسوف؛ لأنها فريضة يخاف فوتها، والخسوف نافلة لا يتحقق فواتها.
وإن اجتمع الخسوف مع الوتر، أو التراويح، أو ركعتي الفجر.. فإنه يقدم صلاة الخسوف، وإن خاف فوت هذه الصلوات؛ لأنها آكد منهن.
قال في "الأم" [1 /216] (وإن كان الكسوف حال الموقف بعرفة.. فإنه يقدم صلاة الكسوف على الدعاء، ثم يخطب راكبًا، ويدعو، وإن كسفت الشمس وقت صلاة الظهر بعرفة.. قدَّم صلاة الكسوف على الدفع إلى عرفة؛ لأنه يخاف فوات صلاة الخسوف، ولا يخاف فوات الدَّفع).
وإن خُسف القمر بعد طلوع الفجر من ليلة المزدلفة، وهو بالمشعر الحرام صلَّى الخسوف وإن كان يؤدي إلى فوات الدفع إلى منى قبل طلوع الشمس؛ لأنها آكد، ويستحب أن يخفف؛ لئلا يفوته الدفع قبل طلوع الشمس.
وإن كسفت الشمس في اليوم الثامن بمكة، وخاف إن اشتغل بصلاة الخسوف أن يفوته الظهر بمنى.. قدَّم صلاة الخسوف. وبالله التوفيق والعفو والمغفرة

.[باب صلاة الاستسقاء]

وصلاة الاستسقاء سُنَّة، والأصل فيها: قَوْله تَعَالَى: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ} [البقرة: 60].
وروى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج إلى المُصلَّى للاستسقاء».
وروي عن أنس: أنه قال: «أصاب أهل المدينة قحط، فبينما النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب يوم الجمعة إذ قام رجل، فقال: يا رسول الله، هلك الكراع والشاء، فادع الله أن يسقينا، فمد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يديه، ودعا، وإن السماء لمثل الزجاجة، فهاجت ريحٌ، فأنشأت سحابًا، ثم أرسلت عزاليها، فخرجنا نخوض الماء، حتى أتينا منازلنا، فلم يزل المطر إلى الجمعة الأخرى، فقام إليه ذلك الرجل أو غيره، فقال: يا رسول الله، تهدمت البيوت، واحتبس الركبان، فادع الله أن يحبسه، فتبسم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال: اللهم حوالينا ولا علينا، فنظرت إلى السحاب يتصدع حول المدينة، كأنه إكليل».

.[مسألة:الاستسقاء بطلب الحاكم]

وإذا أرد الإمام الاستسقاء.. وعظ الناس، وأمرهم بالخروج من المظالم من دم، أو مال، أو عِرْضٍ، وصُلحِ مشاجرٍ، والصدقة، وصوم ثلاثة أيام متوالية، ويخرجون يوم الرابع صيامًا، وإنما أمروا بالخروج من المظالم؛ لما روي عن ابن مسعود: أنه قال: (إذا بخس المكيال والميزان، حبس القطر).
وقال مجاهد، في قَوْله تَعَالَى: {وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ} [البقرة: 159]:
قال: دواب الأرض تلعنهم، تقول: يمنع القطر آثامهم، ولأن مَنْ عليه الدَّين لا يدخل الجنة وهو عليه، فبأن ترد دعوته أولى.
وأما الصلح: فلقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يهجرن أحدكم أخاه فوق ثلاثة أيام، فمن هجر أخاه فوق ثلاث.. فهو في النار».
وأما الصدقة: فتستحب؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الصدقة تطفئ غضب الرب»، والقحط من الغضب.
وأما الصوم: فلقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «دعوة الصائم لا ترد».

.[مسألة:الصلاة في المصلَّى]

والسُنَّة في الاستسقاء: أن تكون في المصلَّى؛ لـ: (أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استسقى فيه)، ولأنه أوسع للجمع.
قال أبو إسحاق: ولأنهم يسألون المطر، فينبغي أن يكونوا حيث يصيبهم المطر.
ويخرج الناس متنظفين بالغسل والسواك في ثياب البذلة، ولا يتطيبون؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج إلى الاستسقاء متبذلاً»، ولأنهم يخرجون للسؤال، فينبغي أن يكونوا بزيِّ السؤال، ويخالف العيد؛ لأنه يوم زينة، فاستحب إظهار الزينة فيه.
ويستحب أن يستسقي بأهل الصلاح من أقرباء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لما روي: (أن عمر استسقى بالعباس بن عبد المطلب، وقال: اللهم إنا كنا إذا قحطنا.. توسلنا إليك بنبيك، فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبيك، فاسقنا، فسقوا).
فإن لم يكن هناك أحد من أهل الصلاح من أقرباء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.. استسقى بأهل الصلاح من غيرهم؛ لما روي: (أن معاوية استسقى بيزيد بن الأسود، وقال: اللهم إنا نستسقي إليك بخيرنا وأفضلنا، اللهم وإنا نستسقي إليك بيزيد بن الأسود، يا يزيد، ارفع يديك، فرفع يزيد يديه، ورفع الناس أيديهم، فثارت سحابةٌ من المغرب كأنها ترْسٌ، وهبَّت لها ريح، فسقوا حتى كاد الناس أن لا يبلغوا منازلهم).
ويستحب إخراج المشايخ، والصبيان، ومن لا هيئة لها من النساء؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يقول الله تعالى: لولا مشايخ ركع، وصبيان رضع، وبهائم رتع.. لصببت عليكم العذاب صبا». ولأن الإنسان إذا كبرت سَنُّهُ.. تساقطت ذنوبه.
والدليل عليه: ما روي أن: النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا بلغ العبد ثمانين عامًا.. غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر». ذكره الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ، ومن لا ذنب له ترجى إجابة دعوته، ولهذا روي: (أن موسى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج يستسقي، فأوحى الله إليه: قل لبني إسرائيل: من كان له ذنب.. فليرجع، فنادى موسى فيهم بذلك، فرجع الناس كلهم حتى لم يبقى منهم معه إلا رجل أعور، فقال له موسى: أما سمعت النداء؟! فقال: بلى، قال: أما لك ذنب؟ قال: لا، نظرت بهذه العين مرَّةً إلى امرأة، فقلعتها، فدعا موسى، وأمن الأعور على دعائه، فسقوا).

.[فرع: لا يطلب إخراج البهائم]

قال الشافعي: (ولا آمر بإخراج البهائم؛ لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يخرجها، فإن أخرجت.. فلا بأس).
وقال أبو إسحاق: يستحب إخراجها، لعل الله سبحانه أن يرحمهما، ولما روي: (أن قوم يونس لما أتاهم العذاب.. جاءوا إلى يونس، ففرَّ منهم غيظًا عليهم ففرَّقوا بين النساء وأطفالهنَّ، وبين البهائم وأولادها، ودعوا، فكثر الضجيج، فصرف الله عنهم العذاب).
وروي: (أن سليمان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج يستسقي، فرأى نملة واقفة على ظهرها، وقد رفعت يديها، وقالت: اللهم إنك خلقتنا، فارزقنا، وإلا فأهلكنا).
وروي: أنها قالت: (اللهم إنا خلقٌ من خلقك لا غنى بنا عن رزقك، فلا تهلكنا بذنوب بني آدم، فقال سليمان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقومه: ارجعوا فقد كفيتم بغيركم، فسقوا).
ويكرهُ إخراج أهل الذمة للاستسقاء، فإن خرجوا.. لم يمنعوا؛ لأنهم جاءوا في طلب الرزق، ولكن لا يختلطون بالمسلمين.
وقال مكحول: لا بأس بإخراجهم.
وقال إسحاق: لا يأمرهم بالخروج، ولا ينهاهم عنه.
وقال الأوزاعي: (كتب يزيد بن عبد الملك إلى عمَّاله بإخراج أهل الذمة للاستسقاء، ولم يعب عليه أحد ذلك في زمانه).
دليلنا: أن الكفار أعداء الله، فلا يتوسَّل بهم إليه.

.[مسألة:مكان الاستسقاء]

قال الشافعي: (ويُستسقى حيث لا يجمع من باديةٍ وقريةٍ ويفعله المسافرون، وإنما كان كذلك؛ لأنه يسنُّ للحاجة إلى المطر، وأهل الأمصار والبوادي والمسافرون في ذلك سواء).
ويجوز فعله جماعة وفرادى؛ لما ذكرناه، فإن نضب ماء الأنهار والآبار، واستنصر أهل البلد بذلك.. جاز أن يصلّى الاستسقاء؛ لأن الحاجة إلى ذلك كالحاجة إلى المطر.

.[مسألة:ينادي للاستسقاء الصلاة جامعة]

ولا يؤذن لصلاة الاستسقاء، ولا يقام لها؛ لما روى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج يستسقي، فصلى ركعتين بلا أذان ولا إقامة، ثم خطبنا».
ويستحب أن ينادى لها: (الصلاة جامعة)؛ لأنها صلاةٌ شرع لها الاجتماع والخطبة، ولم يشرع فيها الأذان، فيشرع فيها: (الصلاة جامعة)، كصلاة العيد والكسوف.
قال الشيخ أبو حامد: ووقتها وقت صلاة العيد؛ لما روى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلَّى صلاة الاستسقاء كصلاة العيدين». قال ابن الصباغ: إلاَّ أن الشافعي قال: (فإن لم يصلِّها قبل الزوال.. صلاَّها بعده)؛ لأنها لا وقت لها تفوت فيه؛ لأن صلاة الاستسقاء لا تختص بيوم، فلم تختص بوقت.
إذا ثبت هذا: فإن صلاة الاستسقاء كصلاة العيد، يكبر في الأولى بعد دعاء التوجه سبع تكبيرات قبل القراءة، وفي الثانية خمسًا قبل القراءة، وبه قال عمر بن عبد العزيز، وسعيد بن المسيب، ومكحول، وأبو يوسف، ومحمد.
وقال مالك: (يصلِّي ركعتين، كصلاة الصبح، من غير تكبير زائد).
وقال أبو حنيفة: (لا تسن الصلاة في الاستسقاء، وإنما يسن الدعاء).
دليلنا: ما روى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج إلى الاستسقاء، فصلَّى ركعتين».
وروى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج إلى المصلَّى للاستسقاء متبذلاً متواضعًا، فصلى ركعتين كما يصلي العيد».
ويقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة بسورة {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق: 1] وفي الثانية بعد الفاتحة بسورة {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر: 1].
قال الشيخ أبو إسحاق: ومن أصحابنا مَنْ قال: يقرأ في الثانية بسورة نوح. وحكاه الشيخ أبو حامد قولاً للشافعي؛ لأنها تليق في الحال، لذكر الاستسقاء فيها.
والأول أصحُّ؛ لما ذكرناه من حديث ابن عباس.
ويجهر في القراءة فيهما، كما قلنا في صلاة العيد.

.[فرع: خطبة الاستسقاء]

فإذا فرغ من الصلاة.. خطب خطبتين يفصل بينهما بجلسة، كما قلنا في خطبة الجمعة.
قال المحامليُّ: ويكبِّرُ في أوَّل الخطبة، وأراد: كما يكبر في أوَّل خطبتي العيد.
وقال المسعودي: [في "الإبانة" ق 103] يستفتح الخطبة بالاستغفار مكان التكبير في خطبة العيد. هذا مذهبنا.
وحُكي: (أن ابن الزبير خطب، ثم صلَّى البراء بن عازبٍ، وزيد بن أرقم)، وكذلك فعل عمر بن عبد العزيز، وإليه ذهب الليث بن سعد.
وروي ذلك: عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
دليلنا: ما روى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صنع في الاستسقاء، كما يصنع في العيد».
وروى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج على الاستسقاء، فصلَّى ركعتين، ثم خطب».
إذا ثبت هذا: فإنه يحمد الله تعالى، ويصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويوصي بتقوى الله، ويقرأ آية من كتاب الله، كما قلنا في خطبة الجمعة، ويُكثر من الاستغفار في الخطبة.
ويستحب أن يدعو في الخطبة الأولى؛ لما روي عن سالم بن عبد الله، عن أبيه: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا استسقى.. قال: «اللهم اسقنا غيثًا، هنيئًا مرئيًا، مريعًا غدقًا، مجللاً طبقًا، سحًّا عامًّا دائمًا، اللهم اسقنا الغيث، ولا تجعلنا من القانطين، اللهم إن بالعباد والبلاد والخلق والبهائم من اللأواء والجهد والضنك ما لا نشكو إلا إليك، اللهم أنبت لنا الزرع، وأدر لنا الضرع، واسقنا من بركات السماء، وأنبت لنا من بركات الأرض، اللهم ارفع عنا الجهد والجوع والعري، واكشف عنا من البلاء ما لا يكشفه غيرك، اللهم إنا نستغفرك، إنك كنت غفارًا، فأرسل السماء علينا مدرارًا».
قال الشافعي: (وأحب أن يفعل هذا كله، ولا وقت للدعاء، ولا يجاوزه).
فـ (المغيث): الذي يغيث الخلق. و (الهنيء): الذي لا ضرر فيه، و (المريء): مثله، و (المريع): الذي تمرع الأرض عليه، أي: تنبت عليه، و (الطبق): الذي يطبق الأرض، و (الغدق): المغدوق الكثير القطر، و (الضنك): الضيق، و (اللأواء والجهد) - بضم الجيم-: الشدة، وبفتحها: النصب.
ثم يخطب بعض الخطبة الثانية مستقبلاً للناس، ثم يستقبل القبلة في بعضها، ويدعو الله، ويحوِّل رداءه، وينكسه إذا كان مربَّعًا، في قوله الجديد.
وقال في القديم: (ويحوله ولا ينكسه)، وهو قول مالك، وأحمد. هكذا ذكر الشيخ أبو حامد في "التعليق"، والشيخ أبو نصر في " المعتمد ".
و (التحويل): أن يجعل ما على عاتقه الأيمن على عاتقه الأيسر، وما على الأيسر على الأيمن.
و (التنكيس): أن يجعل أعلاه أسفله، فإذا كان الرداء ساجيًا، وهو الطيلسان المقوَّر.. فإنه يحوله ولا ينكسه، ويفعل ذلك المأمومون.
وقال أبو حنيفة: (لا يفعل شيئًا من ذلك).
وقال محمد بن الحسن: يفعل ذلك الإمام، دون المأمومين.
دليلنا: ما روى عبد الله بن زيد: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج يومًا يستسقى، وعليه خميصة سوداء، فاستقبل الناس، ودعا، فأراد أن يجعل أعلاها أسفلها، وأسفلها أعلاها، فثقلت عليه، فحولها، وحول الناس معه».
قال الشافعي: (فأحب التحويل؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعله، وأحب القلب؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أراد أن يفعله، وإنما تركه لثقل الخميصة).
قال أبو عبيد: إنما فعله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تفاؤلاً، ولكي يحول الله الخلق من حال الجدب إلى حال الخضب.
ويدعو الله سرًّا فيها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55].
قال ابن الصباغ: فيقول: اللهم إنك أمرتنا بدعائك، ووعدتنا إجابتك، وقد دعوناك كما أمرتنا، فاستجب لنا كما وعدتنا، اللهم امنن علينا بمغفرة ما قارفنا، وإجابتك في سقيانا، وسعةٍ في رزقنا، ثم يدعو بما شاء من دِينٍ ودنيا. [و] ليجمع في الدعاء بين الجهر والإسرار.
وإذا حوَّلوا أرديتهم.. تركوها محوَّلة؛ لينزعوها مع الثياب؛ لأنه لم يرو: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه غيروها.